الثقافة الفلسطينية- روح القضية وجوهر الصراع

لطالما لجأ علماء السياسة إلى الثقافة لتفسير الظواهر والأحداث المعقدة التي يصعب فهمها، أو تلك التي تحتوي على جوانب غامضة غير قابلة للتفسير بسهولة. غالبًا ما كان البعد الثقافي في الظواهر السياسية يُستخدم كذريعة مستترة أو حجة مهملة، وملجأ أخير عند فشل التفسيرات الأخرى.
غير أن الباحثين المتخصصين في الثقافة السياسية، والمهتمين بدراسة المعرفة والقيم والاتجاهات التي تشكل الظواهر السياسية، نجحوا تدريجيًا في تحويل هذا المجال الفرعي في علم السياسة إلى إطار مرجعي أساسي في التحليل والتفسير. يشمل ذلك فهم أساليب التنشئة السياسية لصناع القرار، وتحليل الخلفيات الثقافية للجماعات الفاعلة في المجال العام.
مفهوم الثقافة
ما عزز مكانة الثقافة في التحليل هو اتساع مفهومها ليشمل مجالات أبعد من الفنون والآداب. فهي تمتد نظريًا لتشمل العلوم الإنسانية، وحتى العلوم الطبيعية في بعض الأحيان، وتضم عمليًا الطقوس وأساليب العيش المتنوعة، مما يجعل لكل فرد ثقافته الخاصة، بغض النظر عن مكانته الاجتماعية.
الثقافة هي "كل متكامل" يؤثر في كل سلوك وموقف وقضية وظاهرة. إنها تجري في تاريخ الأمم مجرى الدم في العروق، بل هي الروح التي لا تُرى، والتي بدونها يموت الجسد.
في ضوء هذا المفهوم الواسع والشامل، لا يمكن إغفال البعد الثقافي في القضية الفلسطينية، على الرغم من التركيز على الجوانب السياسية والعسكرية والاقتصادية والتاريخية والدينية التي تشكل الإطار التفسيري التقليدي لها.
عندما نتحدث عن البعد الثقافي، فإننا نتجاوز مجرد الأدب الفلسطيني، وخاصةً "أدب المقاومة" من شعر وقصص وروايات ومسرحيات، والفنون التمثيلية والتشكيلية. فكل هذه الأشكال الفنية تعبر عن القضية بطرق متنوعة، سواء كانت عميقة وغنية فنيًا، أو مباشرة تهدف إلى التسجيل والتحريض والتعبير عن العداء.
الإنتاج الفني والأدبي المتعلق بالقضية الفلسطينية غزير ومستمر، يعكس استمرار اشتعال القضية وعدم توقفها.
تأويلات مفرطة
يكمن البعد الثقافي للقضية في أعماق أبعد من التعبير الفني والأدبي. جوهر هذا البعد يحتاج إلى بحث دؤوب ومخلص، وإزالة الغبار المتراكم عليه، حتى يتضح أمام العيون والعقول، ويُدرك الجميع أن القضية الفلسطينية ذات طبيعة ثقافية عميقة.
هذا الإدراك يساعد على فهم ما وراء الأحداث اليومية الصغيرة الناتجة عن الاحتكاك المستمر، والاعتداءات المتكررة من المستوطنين والجنود الإسرائيليين وردود الفعل الفلسطينية.
فالبعد الثقافي يتجلى في السلوكيات اليومية، بما في ذلك العنف الرمزي والمعنوي والمادي، والحوارات التي تجري على المستويات العليا في المفاوضات السياسية، أو على المستويات الدنيا في العلاقات العملية والتجارية والتبادل اللفظي، بما في ذلك الإهانات والتلاعب وحتى الإيماءات والإشارات، والصمت القسري.
في الأعماق تكمن الثقافة، التي تؤسس وتؤثر وتشير باستمرار إلى ما يجري في القضية الفلسطينية. فإقامة إسرائيل في هذا المكان تحديدًا، بدلًا من أماكن أخرى مقترحة، استندت إلى أساس ثقافي ذي جذور دينية، تجسدها النصوص القديمة والتفسيرات المبالغ فيها لـ "أرض الميعاد".
رؤية مضادة
في مواجهة هذه الفكرة، يتوسل الفلسطينيون برؤية ثقافية مضادة، تعتمد على استدعاء اللغة القديمة والآثار الموجودة في المكان، بالإضافة إلى الطقوس والعادات والتقاليد والأطعمة والأزياء، عوضًا عن التاريخ المكتوب.
هذا الاستدعاء يُحيي الذاكرة، ويجعلها مخزنًا ثقافيًا غنيًا بالحكايات والأحداث التي أنتجتها الأخبار المتلاحقة. تظهر وجوه الشخصيات التي ساهمت في الأحداث من خلال أشكال مختلفة من النضال والمقاومة، المسلحة والمدنية وحتى بالحيلة والصمت. وعلى وقع هذه الذاكرة المتزايدة، يحدد الفلسطينيون مواقعهم ومواقفهم الحالية.
هذا التضاد في استدعاء الماضي يخلق هويتين متصارعتين، لكل منهما مركز متماسك، يجذب الآخرين إلى ما يؤمن به، وما يعتبره سببًا للتماسك والاستمرار والبقاء. وقضية الهوية هي قضية ثقافية بامتياز، سواء في المعرفة أو القيم أو التوجهات التي تطرحها. وبدون فهم هذه الهوية، لا يمكن فهم مسار الصراع الفلسطيني الإسرائيلي.
استدعاء البعد الثقافي
بالإضافة إلى الذاكرة والهوية، يرسخ الإدراك الفلسطيني البعد الثقافي. فاستطلاعات الرأي تكشف أن الثقافة تلعب دورًا هامًا في فهم الفلسطينيين للصراع مع الإسرائيليين، بطرق مختلفة، ظاهرة وكامنة. فكل فلسطيني يتحدث عن الأرض والأهل والهوية الوطنية كعناصر أساسية لفهم الصراع، وتتضمن هذه العناصر جوانب ثقافية عميقة.
ينعكس هذا البعد الثقافي في مختلف العلوم التي يدرسها الشعب الفلسطيني تحت الاحتلال. فالتاريخ هو سجل لمعاناتهم، والجغرافيا هي المكان الذي يجب التمسك به، وعلم النفس هو تعزيز الإرادة لمواجهة التحديات، وعلم الاجتماع هو دراسة الناس الذين يعانون تحت الاحتلال، والاقتصاد هو إدارة الحياة البسيطة لتمكين الناس من التحمل والاستمرار في مخيماتهم وبلداتهم ومدنهم.
أما العلوم السياسية فهي أداة لخدمة القضية الفلسطينية على المستويات المحلية والإقليمية والدولية. والقانون يركز على الحقوق المهضومة للشعب الفلسطيني وواجبات الاحتلال. وحتى النقد الأدبي لا يخلو من استحضار القضية الفلسطينية، باستخدام السياقات العامة في التفسير والتحليل.
العلوم الطبيعية، مثل الهندسة والكيمياء والفيزياء، تخدم مشروع المقاومة، كما رأينا في الحرب الأخيرة، حيث استخدمت فصائل المقاومة هذه العلوم في حفر الأنفاق وصناعة الأسلحة. علم الطب أيضًا حاضر لمنع زيادة نسبة وفيات الأطفال المبكرة، لأنهم مقاتلو المستقبل، وإطالة عمر كبار السن حاملي الحكايات التي تنتقل من جيل إلى جيل.
كل هذا يؤكد على أهمية عدم إهمال البعد الثقافي في أي تحليل للقضية الفلسطينية، لأن الثقافة موجودة في كل شيء، وتؤثر في كل شيء، وستلعب دورًا حاسمًا في إيجاد حل نهائي للمعضلة.